خروج الرواية المصرية من قائمة البوكر القصيرة حدث ثقافى يجب ألا يمر مرور الكرام دون تحليل أو دراسة أو قراءة متأنية، الصدمة ليست على الإطلاق ناتجة عن نظرة شوفينية أو نبرة تعالٍ أو رغبة أنانية فى إقصاء الإخوة العرب، الصدمة فى سؤال ملح وعلامة استفهام مؤرقة، ماذا حدث؟ هل بدأنا فى فقدان قوتنا الناعمة المتمثلة فى التأثير الثقافى من فن وإبداع وإعلام على المنطقة العربية، التى لا علاقة لها بالمناسبة بالتراجع الاقتصادى؟ مجرد ساعات مرت بين مشاهدة عرض الأوبرا الذى استُقبل به الرئيس بوتين وبين السلام الجمهورى الروسى الذى ودِّع به بوتين، مسافة زمنية بين قمة الإبداع والانضباط والاحتراف من موسيقى وراقصى الأوبرا الذين عزفوا رحمانينوف وكورساكوف والسلام الجمهورى الروسى أيضاً بمنتهى الجمال والروعة وهو نفس السلام الجمهورى الذى عُزف خطأً فى الوداع، هى مسافة ما بين الإبداع والعشوائية، إنه الاستسهال وغياب فريضة الإتقان، لماذا البرفيكشن، لماذا السعى نحو الكمال؟ سؤال صار كل منا يسأله لنفسه للأسف، لو طبقنا هذا الكلام على الرواية لا بد أن نواجه أنفسنا بصراحة، الروائيون العرب الجدد، خاصة من الشام والمغرب العربى، صاروا أكثر انفتاحاً على إبداعات الغرب وأكثر قبولاً وتفاعلاً مع قيم الحداثة، بحكم اللغة والسفر والاهتمام بالنشر والترجمة.. إلخ، والمدهش أنك تجدهم مطلعين على التراث، وجادين فى قراءته النقدية لا القمعية التسليمية اليقينية، والمدهش أيضاً أن لغتهم العربية برغم إتقانهم التام للغات أخرى هى لغة سليمة وعذبة وليست من لغة الحفريات، الفيروس الآخر الذى أصاب روائيينا الجدد هو غرقهم فى العمل السياسى ونفاد وقودهم الإبداعى فى المقالات السياسية، ما جعلهم فى ساحة معركة تستنفد فنهم وتقلص رؤيتهم وتختزل وتضيق طموحهم ووقتهم وإخلاصهم الروائى والفنى، بالطبع ومن الجنون أن أقصد الابتعاد عن هموم الوطن، فهذه الهموم هى مادة المبدع الخام ولكن لا بد للنحات من مسافة عن مادته الخام حتى يشكلها بأزميله، وألا يكون قطعة من الطمى أو الجرانيت يدخل الفرن ليتشكل معهم ويقول أنا مبدع، ولكم فى نجيب محفوظ أسوة حسنة فهو قد بنى هرمه الإبداعى على قاعدة من بخل الكتابة السياسية واللقاءات التليفزيونية وكرم حاتمى وإخلاص لا حدود له لمواعيد كتابته الروائية المنضبطة، أما الوهم الأسطورى الذى أصاب رؤيتنا النقدية فى مقتل وجعل الروائى الحقيقى مكتئباً معزولاً على شفا الانتحار هو وهم البيست سيلرز، هذا الوهم الذى نسجه تدنى الذوق وتزييف الوعى وانحدار التعليم وفقدان بوصلة التقييم الفنى ونفى الناقد الحقيقى المؤهل الواعى، فليست كل رواية تبيع أكثر هى بالضرورة رواية جيدة، بل فى أحيان كثيرة تكون رواية رديئة، بل هى غالباً لا رواية!!. لا تعتبر هذا الخروج من البوكر مجرد ضربة حظ أو عدم توفيق، بل هو مؤشر خطير على أن القوة الناعمة صارت رملاً يتسرب من بين أصابعنا، وبعد أن كان مبدعو العرب يحضرون لتتويج «شوقى» أميراً للشعر، وطه حسين عميداً للأدب، و«محفوظ» سفيراً للرواية، صرنا الآن نتسول اعترافاً ونطلب أسطوانة أوكسجين وختم نسر من لجنة البوكر بأننا لم نمت روائياً.